المولد و النشأة :
العالم الجليل الشيخ عُرابي بن الحاج خالد عدي، وأمه فاطمة بنت عبد الرزاق عدي.
ولد في قسم الحاضر من مدينة حماة عام 1883م، و نشأ فيها على الدين والأخلاق، محباً منذ طفولته للعلم والعلماء، يداوم على حلقات الدروس التي تعقد في المساجد، وحيثما التقيت به وجدته حاملاً بيده الكتب الدينية ذات الورق الأصفر، ذاهباً إلى شيوخ وعلماء عصره يتلقى عنهم.
وأما شيخه الذي أخذ عنه ولازمه علامة حماة الشيخ «سعيد النعسان» وبذلك يعتبر الشيخ سعيد النعسان شيخه الرئيسي، الذي أخذ عنه ولازمه وتتلمذ عليه واستفاد منه علماً وسلوكاً وأخلاقاً، ويحضر دروسه العامة والخاصة، كما حفظ القرآن الكريم وأتقنه قراءة وتجويداً على العلماء وهو غلام، وقد حفظ القرآن الكريم خلال أربعة أشهر، فقد كانت زوجته تسمع له حتى حفظه بتمامه) في هذه الفترة أتقنت زوجته تلاوته) ومازال هذا دأبه في تلقي العلم من أهله حتى شب وترعرع، وصار من كبار فقهاء الشافعية، وصار يلقن ما تعلمه إلى طلابه ومريديه.
تزوج في سن مبكرة وكان سناً طبيعياً للزواج من خديجة بنت محمود عدي، وكان في الحادية العشرين من العمر – كما حج في هذه السنة نفسها – وكان الحج على الجمال فبقي في حجته ما يزيد على أربعة أشهر.
تسلم خطبة الجمعة، والتدريس في كل يوم بين المغرب العشاء، في جامع البحصة في الحاضر والإمامة في جامع العبيسي وغيره.
كما دّرس في مدرسة «عنوان النجاح» التي أسسها وفتحها أستاذه مفتي حماة الشيخ سعيد النعساني، في عام 1330ﻫ الموافق 1911م.
وإضافة إلى ذلك كان يعمل في التجارة، ويحب العمل والكسب الحلال، فأفتتح محلاً في السوق يبيع «العباءات والمشالح» إلى جانب عمله في الدروس الدينية التي كان يعيين وقتها بما يتناسب والعمل الذي يقوم به – حيث كان مرجعاً لحل الخلافات بين الناس في تعاملهم، وخاصة التجار لخبرته العملية في ذلك، كما كان مرجعاً في أحكام النساء والطلاق – فقد كان متجره بمثابة مكتب يؤمه الناس، يستفتون ويستمع إليهم، وحكمه نافذ فوراً والكل راضٍ بما حكم.
كان في عمله وتجارته مثال التاجر الصدوق الورع، وكان إذا سمع الأذان للصلاة أغلق متجره فوراً ولو كان عنده العديد من الزبائن، ويعدهم إلى ما بعد الصلاة.
كما كان يخصص عدداً من العباءات يوزعها على الفقراء في فصل الشتاء ليعيدوها إليه بعد انتهاء البرد.
ومما اشتهر به حبه للخيل والفروسية، فاقتنى فرساً يركبها في أكثر الأيام، حيث كان خيالاً بارعاً من الطراز الأول.
كان له إخوة وأصحاب في شبابه يسهر معهم لطلب العلم والمسامرة، يجتمعون كل يوم بعد صلاة العشاء في غرفة خاصة بهم في جامع «النبي حام» ومن هؤلاء الأصدقاء الحاج «قدري الكيلاني» الذي صار فيما بعد من كبار المؤرخين، والقاضي القارئ «إبراهيم بك العظم» والحاج «فارس الشققي» إمام جامع «النبي حام» والشيخ «مصطفى النعسان بن الشيخ سعيد النعسان مفتي حماة» «وحسن طربين بن الشيخ محمد طربين الفقيه الشافعي» والمنشد المؤذن الحاج «أحمد الريس» و«فهمي بك العظم» والشيخ «عبد الرزاق خير الله» إمام وخطيب جامع المصلى، والحاج «نجيب الشققي» والحاج «مصطفى جَمَال» والشيخ «محمود العثمان» والشيخ «أحمد الدرويش أبو ديّه».
وكثيراً ما كنت أسمع ممن كانت لهم علاقة بهذا المجتمع أو عاصره كيف كان اجتماعهم على العلم والتقوى والمحبة والصلاح والمنادمة والسمر والفكاهة. وقد كان لهم بيت مركب من الخشب، يخرجون به إلى قمة جبل «زين العابدين» في فصل الربيع ولعدة أيام في كل عام، كما كانوا يخرجون به إلى القلعة – قلعة حماة أحدى متنزهات البلد – في الربيع والصيف يتمتعون بالجو اللطيف والهواء النقي، واستمر هذا الاجتماع لسنين طويلة، حتى بعد أن أخذ كل منهم مكانه في العمل ورعاية الأسرة.
كل ذلك إضافة إلى تحلقهم حول شيخهم الشيخ سعيد النعسان، والذي كان يشجعهم على ذلك ويرغبهم فيه – كما كان يشجعني وأصحابي فيما بعد على مثل ذلك تمشياً مع روح الشباب – وقد كتبت ذلك وأثبت بعض أسماء هؤلاء الأخوة تخليداً لذكراهم، ولأبين كيف كان الناس وطلاب العلم الذين يلتفون حول الشيخ في ذلك الزمان، ثم إن أكثر هؤلاء صاروا من العلماء وربما كتبت تراجم بعضهم في تراجمي هذه إذا أسعفي الحال إن شاء الله تعالى.
من أولاده:
القاضي الشهير الأستاذ عبد الحسيب، وقد أفردت له ترجمة مع تراجم القرن الرابع عشر، نقلاً عن ترجمة كتبها عنه«الحافظ وأباظة» في كتابهما «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر هجري» حيث كان عمله فيها، ثم أقام في دمشق بعد إحالته على التقاعد، وتوفي فيها.
والقاضي الأستاذ المحامي عبد اللطيف، الذي عمل في بلدان متعددة، في سوريا ثم أحيل على التقاعد وهو يعمل في المحاماة في مدينة حمص.
الضابط إبراهيم، وهو أصغرهم، كان يعمل في القوات المسلحة كضابط كبير برتبة عميد، ثم أحيل على التقاعد وسكن دمشق.
وقد كان الشيخ عُرابي رحمه الله، كما أتخيله من معرفتي له، متوسط القامة نحيفاً يميل إلى الشقرة يلبس القمباز، وفوقه الجبة وعلى رأسه عمامة بيضاء فوق الطربوش الأحمر، على عادة المشايخ في ذلك الوقت.
وفاته :
وهكذا كان حاله من تعلم وتعليم، وعمل وإرشاد، وفتوى وفض الخصومات، حتى مرض بالحمى التيفية التي لم تمهله إلا يومين أو ثلاثة ليلقى وجه الله تعالى في يوم الجمعة 9 كانون الثاني1955م عن عمر يناهز السبعين سنة ميلادية، راضياً مرضياً بكامل عقله.
ولما حضرته الوفاة تهلل وجهه، واستبشر بلقاء الله تعالى وهو يقول: مرحباً بلقاء الله.
وآخر ما ودع هذه الدنيا الفانية بلفظ الشهادة، فقد توفي وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم لوى رأسه وخرجت روحه إلى بارئها – كما حدثنا ولده عبد اللطيف ومن كان حوله من أهله وأولاده.
وهكذا قضى العالم العامل الشيخ عُرابي، وبكت عليه عيون كثيرة، وهذه أحدى العبرات التي سكبتها عين دامعة من صديق له كان يلازمه، نقتطف منها:
الدمع فاض من الأجفان مبذولا
ماذا دهاكم وما هذا النواح بكم
قالوا قضى الحبر أعرابي فقلت لهم
الناسك البر في فتواه محتسباً
رحماك من للقضايا الدهم نازلة
إنا عهدناك كهفاً نستظل به
إن غبت عنا فما غابت مآثركم
كانت لياليكم بالعلم نيرةٌ
لكن عَدَتْنا عوالي الدهر فاختطفت
المشبه الرسل في خلْق وفي عمل
ما أصعب الجرح فوق الجرح يرزؤه
لم يبقى بعدك لا طفلٌ ولا رجلٌ
قد أظلم الليل وأسودت جوانبه
كنا نباهي بكم كل الورى شرفاً
أفديه خلاً وفياً صادقاً ورعاً
إن فاه موعدة بالفعل أتبعها
ليت الليالي التي كانت بكم غررٌ
إن المساجد تنعي الدرس بعدكم
رحماك فاهنأ حباك الله جنته
سقيت يا قبر أعرابي بغادية
يا ساكبي الدمع حاكى فيضه النيلا
هل كان نوحكم للدوح تعليلا
حقاً فإن سنام العلم قد هيلا
رضا الرحيم وليست هذه الأولى
إذا دهتنا ومن نرجو لها سولا
حصناً حصيناً بحبل الله موصولا
عن الأنام وتبقى بعدكم جيلا
والشمل ملتئماً بالصحب مأهولا
بالرغم منا إماماً كان مأمولا
في سيرة مَثّلَ الأبرار تمثيلا
نعلل النفس بالآسى تعليلا
إلا بكى وغدا بالحزن مشمولا
وعاد كل زكي القلب مذهولا
فاليوم للرسل ننعيكم وجبريلا
زاهي المحيّا على الخيرات مجهولا
وكان كهفاً إلى العافين مأمولا
ظلت على هامة الأيام إكليلا
فمن لها مفتياً لا زال مسؤولا
وانْعِمْ مع الرسل الكرام وجبريلا
هنانة من رضى الرحمن تنزيلا
تسقي ضريحك يا بحر العلوم ويا
طوداً ثوى وبظل العرش موصولا ( )
كما ترجمه الشيخ منير لطفي على أوراق تقويم الغزالي بتاريخ 10 و11 تشرين ثاني لعام 1972م الموافق 1391ﻫ وقال: ولد في حماة عام 1880م وتوفي عام 1955م تلقى علوم العربية والأصول والفقه على الشيخ سعيد النعسان مفتي حماة ودرس الفقه على الشيخ محمد طربين شافعي عصره (والشيخ طربين من شيوخ الشيخ سعيد النعسان كما سيأتي) وبقي يعلم تلاميذه وأصدقاءه
ثلاثين سنة في غرفة خاصة من الجامع النوري وممن درس عليه الشيخ مصطفى زكية والشيخ محمد منير لطفي.
كان زاهداً وورعاً وعارفاً بروح الدين ويسره كفهم السلف الصالح له وكان حسن المعاشرة مرحا لين العريكة لا يتعالى ولا يخاصم أحداً ولا يذكر أحداً بسوء وكان يرغب في حياة البساطة فقضي حياته بعيداً عن الوظائف والمناصب وكانت دكانه بالحاضر مركزاً علميا يؤمها الطلاب لتلقي العلم وفيها يفصل في الخصومات بين الناس وفق الحكم الشرعي رحمه الله تعالى وأجزل ثوابه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر الترجمة : كتاب / من مشاهير و علماء حماة / عبد المجيد محمد منير الشققي